الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ بِأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا بَيِّنَاتٍ أَنَّهَا حُجَجٌ شَاهِدَةٌ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، قَالُوا لِمُوسَى: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتِنَا بِهِ إِلَّا سِحْرٌ افْتَرَيْتَهُ مِنْ قِبَلِكَ وَتَخَرَّصْتَهُ كَذِبًا وَبَاطِلًا (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا) الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ تَدْعُونَا إِلَى عِبَادَتِهِ فِي أَسْلَافِنَا وَآبَائِنَا الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِوَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَقَالَ مُوسَى) مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ: (رَبِّي أَعْلَمُ) بِالْمُحِقِّ مِنَّا يَا فِرْعَوْنُ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَمَنِ الَّذِي جَاءَ بِالرَّشَادِ إِلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ وَالْبَيَانِ عَنْ وَاضِحِ الْحُجَّةِ مِنْ عِنْدِهِ، وَمِنَ الَّذِي لَهُ الْعُقْبَى الْمَحْمُودَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنَّا، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ، وَجَمِيلُ مُخَاطَبَةٍ، إِذْ تَرَكَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: بَلِ الَّذِي غَرَّ قَوْمَهُ وَأَهْلَكَ جُنُودَهُ، وَأَضَلَّ أَتْبَاعَهُ أَنْتَ لَا أَنَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّ عَدُوِّ اللَّهِ بِأَجْمَلَ مِنَ الْخِطَابِ فَقَالَ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَنْجَحُ وَلَا يُدْرِكُ طِلْبَتَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي بِذَلِكَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ وَلَا يَنْجَحُ لِكُفْرِهِ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِيفَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِأَشْرَافِ قَوْمِهِ وَسَادَتِهِمْ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فَتَعْبُدُوهُ، وَتُصَدِّقُوا قَوْلَ مُوسَى فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ أَنَّ لَكُمْ وَلَهُ رَبَّا غَيْرِي وَمَعْبُودًا سِوَايَ {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} يَقُولُ: فَاعْمَلْ لِي آجُرًّا، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ طَبَخَ الْآجُرَّ وَبَنَى بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} قَالَ: عَلَى الْمَدَرِ يَكُونُ لَبِنًا مَطْبُوخًا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَوَّلُ مَنْ أَمَرَ بِصَنْعَةِ الْآجُرِّ وَبَنَى بِهِفِرْعَوْنُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ طَبَخَ الْآجُرَّ يَبْنِي بِهِ الصَّرْحَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} قَالَ: الْمَطْبُوخِ الَّذِي يُوقِدُ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ طِينٍ يَبْنُونَ بِهِ الْبُنْيَانَ. وَقَوْلُهُ: {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} يَقُولُ: ابْنٍ لِي بِالْآجُرِّ بِنَاءً، وَكُلُّ بِنَاءٍ مُسَطَّحٍ فَهُوَ صَرْحٌ كَالْقَصْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: بِهِـنَّ نَعَـامٌ بَنَاهَـا الرِّجَـا *** لُ تَحْسَـبُ أعْلَامَهُـنَّ الصُّرُوحَـا يَعْنِي بِالصُّرُوحِ: جَمْعَ صَرْحٍ. وَقَوْلُهُ: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} يَقُولُ: انْظُرْ إِلَى مَعْبُودِ مُوسَى، الَّذِي يَعْبُدُهُ، وَيَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ (وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ) فِيمَا يَقُولُ مِنْ أَنَّ لَهُ مَعْبُودًا يَعْبُدُهُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا مِنَ الْكَاذِبِينَ؛ فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَامَانَ بَنَى لَهُ الصَّرْحَ، فَارْتَقَى فَوْقَهُ. فَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ وَقِصَّةِ ارْتِقَائِهِ مَا حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي} أَذْهَبُ فِي السَّمَاءِ، فَأَنْظُرَ (إِلَى إِلَهِ مُوسَى) فَلَمَّا بُنِيَ لَهُ الصَّرْحُ، ارْتَقَى فَوْقَهُ، فَأَمَرَ بِنُشَّابَةٍ فَرَمَى بِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، فَرُدَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ مُتَلَطِّخَةٌ دَمًا، فَقَالَ: قَدْ قَتَلْتُ إِلَهَ مُوسَى، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّوَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَاسْتَكْبَرَ) فِرْعَوْنُ (وَجُنُودُهُ) فِي أَرْضِ مِصْرَ عَنْ تَصْدِيقِ مُوسَى وَاتِّبَاعِهِ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يَعْنِي تَعَدِّيًا وَعُتُوًّا عَلَى رَبِّهِمْ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} يَقُولُ: وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ لَا يُبْعَثُونَ، وَلَا ثَوَابَ، وَلَا عِقَابَ، فَرَكِبُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَأَنَّهُ لَهُمْ مُجَازٍ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَجَمَعْنَا فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ مِنَ الْقِبْطِ {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} يَقُولُ: فَأَلْقَيْنَاهُمْ جَمِيعَهُمْ فِي الْبَحْرِ فَغَرَّقْنَاهُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: نَظَـرْتُ إِلَـى عُنْوَانِـهِ فَنَبَذْتُـهُ *** كَنَبْـذِكَ نَعْـلًا أُخْـلِقَتْ مِـنْ نِعَالِكَـا وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ بَحْرٌ مِنْ وَرَاءِ مِصْرَ، كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} قَالَ: كَانَ الْيَمُّ بَحْرًا يُقَالُ لَهُ إِسَافُ مِنْ وَرَاءِ مِصْرَ غَرَّقَهُمُ اللَّهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ: كَيْفَ كَانَ أَمْرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَرَدُّوا عَلَى رَسُولِهِ نَصِيحَتَهُ، أَلَمْ نُهْلِكْهُمْ فَنُوَرِّثْ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ أَوْلِيَاءَنَا، وَنُخَوِّلُهُمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ، تُقَتَّلُ أَبْنَاؤُهُمْ، وَتُسْتَحَيَا نِسَاؤُهُمْ، فَإِنَّا كَذَلِكَ بِكَ وَبِمَنْ آمَنَ بِكَ وَصَدَّقَكَ فَاعِلُونَ، مُخَوِّلُوكَ وَإِيَّاهُمْ دِيَارَ مَنْ كَذَّبَكَ، وَرَدَّ عَلَيْكَ مَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَأَمْوَالَهُمْ، وَمُهْلِكُوهُمْ قَتْلًا بِالسَّيْفِ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِوَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ أَئِمَّةً يَأْتَمُّ بِهِمْ أَهِلُ الْعُتُوِّ عَلَى اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنْصُرُهُمْ إِذَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ نَاصِرٌ، وَقَدْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَتَنَاصَرُونَ، فَاضْمَحَلَّتْ تِلْكَ النُّصْرَةُ يَوْمَئِذٍ. وَقَوْلُهُ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَلْزَمْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا خِزْيًا وَغَضَبًا مِنَّا عَلَيْهِمْ، فَحَتَّمْنَا لَهُمْ فِيهَا بِالْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ، وَنَحْنُ مُتْبِعُوهُمْ لَعْنَةً أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَخْزُوُّهُمْ بِهَا الْخِزْيَ الدَّائِمَ، وَمُهِينُوهُمُ الْهَوَانَ اللَّازِمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} لَعْنَةً أُخْرَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ فَقَالَ: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وَقَوْلُهُ: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هُمْ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، فَأَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَعِظَةً لِلْمُتَّعِظِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىبَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا} الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: ضِيَاءً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا بِهِمْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ (وَهُدًى) يَقُولُ: وَبَيَانًا لَهُمْ وَرَحْمَةً لِمَنْ عَمِلَ بِهِ مِنْهُمْ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يَقُولُ: لِيَتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللَّهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا وَلَا يَكْفُرُوا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَا ثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ، قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخُوا قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَوَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَا كُنْتَ) يَا مُحَمَّدُ (بِجَانِبِ) غَرْبِيِّ الْجَبَلِ {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} يَقُولُ: إِذْ فَرَضْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ فِيمَا أَلْزَمْنَاهُ وَقَوْمَهُ، وَعَهِدْنَا إِلَيْهِ مِنْ عَهْدٍ {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} يَقُولُ: وَمَا كُنْتَ لِذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: (وَمَا كُنْتَ) يَا مُحَمَّدُ {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} يَقُولُ: بِجَانِبِ غَرْبِيٍّ الْجَبَلِ {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: غَرْبِيِّ الْجَبَلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّكُمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُجِبْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوا، وَقَرَأَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُوَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} وَلَكِنَّا خَلَقَنَا أُمَمًا فَأَحْدَثْنَاهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} يَقُولُ: وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، يُقَالُ: ثَوَيْتُ بِالْمَكَانِ أَثْوِي بِهِ ثَوَاءً، قَالَ أَعْشَى ثَعْلَبَةَ: أَثْـوَى وَقَصَّـرَ لَيْلَـهُ لِـيُزَوَّدَا *** فَمَضَـى وَأَخْـلَفَ مِـنْ قُتَيْلَـةَ مَوْعِدَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} قَالَ: الثَّاوِي: الْمُقِيمُ {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} يَقُولُ: تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَنَا {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} يَقُولُ: لَمْ تَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ وَنُرْسِلُ الرُّسُلَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَاوَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِجَانِبِ الْجَبَلِ إِذْ نَادَيْنَا مُوسَى بِأَنْ {سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}... الْآيَةَ. كَمَا حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قَالَ: نَادَى يَا أَمَةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قَالَ: نُودُوا: يَا أَمَةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَاسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي. حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قَالَ: نُودُوا يَا أَمَةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَاسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَسُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَحَجَّاجٌ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قَالَ: نُودُوا يَا أَمَةَ مُحَمَّدٍ أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَاسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُهُ: حِينَ قَالَ مُوسَى {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ}... الْآيَةَ. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ تَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ فَتَعْلَمْهُ، وَلَكِنَّا عَرَّفْنَاكَهُ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، فَاقْتَصَصْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكَ فِي كِتَابِنَا، وَابْتَعَثْنَاكَ بِمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولًا إِلَى مَنِ ابْتَعَثْنَاكَ إِلَيْهِ مِنَ الْخُلُقِ رَحْمَةً مِنَّا لَكَ وَلَهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا}... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قَالَ: كَانَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ النُّبُوَّةُ. وَقَوْلُهُ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنْ أَرْسَلْنَاكَ بِهَذَا الْكِتَابِ وَهَذَا الدِّينِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا لَمْ يَأْتِهِمْ مَنْ قَبِلَكَ نَذِيرٌ، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَحْمَةً لِيُنْذِرَهُمْ بِأْسَهُ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَإِشْرَاكِهِمْ بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ. وَقَوْلُهُ: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يَقُولُ: لِيَتَذَكَّرُوا خَطَأَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَيُنِيبُوا إِلَى الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قَالَ: الَّذِي أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْفَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلْتُكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَيْهِمْ، لَوْ حَلَّ بِهِمْ بَأْسُنَا، أَوْ أَتَاهُمْ عَذَابُنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نُرْسِلَكَ إِلَيْهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَاكْتِسَابِهِمُ الْآثَامَ، وَاجْتِرَامِهِمُ الْمَعَاصِي: رَبَّنَا هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحِلَّ بِنَا سَخَطُكَ، وَيَنْزِلَ بِنَا عَذَابُكَ فَنَتَّبِعُ أَدِلَّتَكَ، وَآيَ كِتَابِكَ الَّذِي تُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِكَ وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأُلُوهِيَّتِكَ، الْمُصَدِّقِينَ رَسُولَكَ فِيمَا أَمَرْتَنَا وَنَهَيْتَنَا، لَعَاجَلْنَاهُمُ الْعُقُوبَةَ عَلَى شِرْكِهِمْ مِنْ قَبْلِ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنَّا بَعَثْنَاكَ إِلَيْهِمْ نَذِيرًا بَأْسَنَا عَلَى كُفْرِهِمْ، لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. وَالْمُصِيبَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعَذَابُ وَالنِّقْمَةُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بِمَا اكْتَسَبُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا جَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ نَذِيرٌ فَبَعَثْنَاكَ إِلَيْهِمْ نَذِيرًا {الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا}، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، قَالُوا تَمَرُّدًا عَلَى اللَّهِ، وَتَمَادِيًا فِي الْغَيِّ: هَلَّا أُوتِيَ هَذَا الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْنَا، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى بْنُ عُمْرَانَ مِنَ الْكِتَابِ؟ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، الْقَائِلِينَ لَكَ {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أَوَلَمْ يَكْفُرِ الَّذِينَ عَلِمُوا هَذِهِ الْحُجَّةَ مَنَ الْيَهُودِ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: يَهُودُ تَأْمُرُ قُرَيْشًا أَنْ تَسْأَلَ مُحَمَّدًا مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى، يَقُولُ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِقُرَيْشٍ يَقُولُوا لَهُمْ: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) قَالَ: الْيَهُودُ تَأْمُرُ قُرَيْشًا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ “ قَالُوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: “ وَقَالُوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “ بِمَعْنَى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ، وَقَالُوا لَهُ وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ سَاحِرَانِ تَعَاوَنَا. وَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} بِمَعْنَى: وَقَالُوا لِلتَّوْرَاةِ وَالْفُرْقَانِ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِلْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِالسَّاحِرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَظَاهَرَا مُحَمَّدٌ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الرَّعِينِيُّ، قَالَ: ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ “ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “ قَالَ: مُوسَى وَمُحَمَّدٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ. ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ “ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “ قَالَ: مُوسَى وَمُحَمَّدٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ. ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَرَأَ “ سَاحِرَانِ “ قَالَ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ كَيْسَانَ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. وَمَنْ قَالَ: مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ “ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “ قَالَ يَهُودُ: لِمُوسَى وَهَارُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قَوْلُ يَهُودَ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي رَزِينٍ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَرَأَ: “ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “، وَالْآخَرَ: “ سِحْرَانِ “. قَالَ: الَّذِي قَرَأَ “ سِحْرَانِ “ قَالَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ: الَّذِي قَرَأَ: “ سَاحِرَانِ “ قَالَ: مُوسَى وَهَارُونُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَوْا بِالسَّاحِرَيْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ. قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ: “ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا “ قَالَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ، أَوْ قَالَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَوْا بِذَلِكَ التَّوْرَاةَ وَالْفُرْقَانَ، وَوَجْهُ تَأْوِيلِهِ إِلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ “ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا “: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ ثَنَى مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: “ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا “ يَقُولُ: التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمَى، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يَعْنِي: التَّوْرَاةَ وَالْفُرْقَانَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قَالَ: كِتَابُ مُوسَى، وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَوْا بِهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَتَعَوَّذُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، فَقُلْتُ كَيْفَ تَقْرَأُ “ سِحْرَانِ “، أَوْ “ سَاحِرَانِ “؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَاحِرَانِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ لَوْ كَرِهَ ذَلِكَ أَنْكَرَهُ عَلَيَّ. قَالَ حُمَيْدٌ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْتُ كَيْفَ كَانَ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَ: كَانَ يَقْرَأُ “ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا “ أَيِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَوْا بِهِ الْفُرْقَانَ وَالْإِنْجِيلَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، أَنَّهُ قَرَأَ {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يَعْنُونَ الْإِنْجِيلَ وَالْفُرْقَانَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قَالَتْ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ لِلْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ قَالَ “ سَاحِرَانِ “ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} بِمَعْنَى: كِتَابُ مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَكِتَابُ عِيسَى وَهُوَ الْإِنْجِيلُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ قَبْلِهِ جَرَى بِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} وَالَّذِي يَلِيهِ مِنْ بَعْدِهِ ذِكْرُ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} فَالَّذِي بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِهِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى بِالْقِرَاءَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، أَوَلَمْ يَكْفُرْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ؟ وَقَالُوا لِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنَ الْكِتَابِ وَمَا أُوتِيتَهُ أَنْتَ: سِحْرَانِ تَعَاوَنَا؟ وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا بِكُلِّ كِتَابٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ تَوْرَاةِ وَإِنْجِيلٍ، وَزَبُورٍ وَفُرْقَانٍ كَافِرُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَخَالَفَهُ فِيهِ مُخَالِفُونَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ مِثْلَ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: (إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) قَالُوا: نَكْفُرُ أَيْضًا بِمَا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} قَالَ الْيَهُودُ أَيْضًا: نَكْفُرُ بِمَا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَقَالُوا إِنَّا بِكُلِّ الْكِتَابَيْنِ الْفُرْقَانِ وَالْإِنْجِيلِ كَافِرُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} يَقُولُ: بِالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} يَعْنُونَ الْإِنْجِيلَ وَالْفُرْقَانَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، يَقُولُ: بِالْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةِ وَالْفُرْقَانِ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَاأَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْقَائِلِينَ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: هُمَا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا: ائْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا لِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَلِسَبِيلِ الرَّشَادِ {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ هَذَيْنَ الْكِتَابَيْنِ سِحْرَانِ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِمَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا}... الْآيَةَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ اللَّهُ {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} مِنْ هَذَيْنَ الْكِتَابَيْنِ؛ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُوسَى، وَالَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ لَمْ يُجِبْكَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: سَحَرَانِ تَظَاهَرَا، الزَّاعِمُونَ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ يَا مُحَمَّدُ، إِلَى أَنْ يَأْتُوكَ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا، فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَأَنَّ الَّذِي يَنْطِقُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ فِي الْكِتَابَيْنِ قَوْلُ كَذِبٍ وَبَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: أَوَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَ الْقَائِلُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الْإِفْكِ وَالزُّورِ، الْمُسِمُّوهُمَا سِحْرَيْنِ بَاطِلٌ مِنَ الْقَوْلِ، إِلَّا بِأَنْ لَا يُجِيبُوهُ إِلَى إِتْيَانِهِمْ بِكِتَابٍ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا؟ قِيلَ: هَذَا كَلَامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَقُولُ لَهُمْ: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: أَوَلَمْ يَكْفُرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرُوكُمْ أَنْ تَقُولُوا: هَلَّا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى-بِالَّذِي أُوتِيَ مُوسَى- مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؟ وَيَقُولُوا لِلَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيسَى {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} فَقُولُوا لَهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى سِحْرٌ، فَأَتَوْنِي بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، هُوَ أَهْدَى مِنْ كِتَابَيْهِمَا، فَإِنْ هُمْ لَمْ يُجِيبُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَذَبَةٌ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا، وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَهْوَاءَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ وَمَنْ أَضَلُّ “ عَنْ طَرِيقِ الرَّشَادِ، وَسَبِيلِ السَّدَادِ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ بَيَانٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَيَتْرُكْ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرُّشْدِ الْقَوْمَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَتَرَكُوا طَاعَتَهُ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَبَدَّلُوا عَهْدَهُ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِهِمْ إِيثَارًا مِنْهُمْ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ وَصَلْنَا يَا مُحَمَّدُ، لِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ وَلِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَوْلَ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ وَالنَّبَأَ عَمَّا أَحْلَلْنَا بِهِمْ مِنْ بَأْسِنَا، إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَنَا، وَعَمَّا نَحْنُ فَاعِلُونَ بِمَنِ اقْتَفَى آثَارَهُمْ، وَاحْتَذَى فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ مِثَالَهُمْ، لِيَتَذَكَّرُوا فَيَعْتَبِرُوا وَيَتَّعِظُوا. وَأَصْلُهُ مِنْ: وَصَّلَ الْحِبَالَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَقُـلْ لِبَنِـي مَـرْوَانَ مَـا بَـالُ ذِمَّـةٍ *** وَحَـبْلٍ ضَعِيـفٍ مَـا يَـزَالُ يُـوَصَّلُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمْ بِبَيَانِهِمْ عَنْ تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: بَيَّنَّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَصَّلْنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ: فَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ: وَصَّلَ اللَّهُ لَهُمُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، يُخْبِرُهُمْ كَيْفَ صَنَعَ بِمَنْ مَضَى، وَكَيْفَ هُوَ صَانِعٌ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: وَصَّلْنَا: بَيَّنَّا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ} الْخَبَرَ، خَبَرَ الدُّنْيَا بِخَبَرِ الْآخِرَةِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوا الْآخِرَةَ، وَشَهِدُوهَا فِي الدُّنْيَا، بِمَا نُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا وَأَشْبَاهِهَا. وَقَرَأَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} وَقَالَ: إِنَّا سَوْفَ نُنْجِزُهُمْ مَا وَعَدْنَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنْجَزْنَا لِلْأَنْبِيَاءِ مَا وَعَدْنَاهُمْ نَقْضِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فِيمَنْ عَنَى بِالْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِمَا قُرَيْشًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ: قُرَيْشٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ: لِقُرَيْشٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قَالَ: يَعْنِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهِمَا الْيَهُودَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، عَنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَشَرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثَنَا حَيَّانُ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} فِي عَشَرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ، فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَعْنِي مُحَمَّدًا، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَهْدَ اللَّهِ فِي مُحَمَّدٍ إِلَيْهِمْ، فَيُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ وَيُصَدِّقُونَهُ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِرَسُولِهِ وَصَدَّقُوهُ، فَقَالَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، هُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُؤْمِنُونَ. فَيُقِرُّونَ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُكَذِّبُ جَهَلَةُ الْأُمِّيِّينَ، الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَى أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنَى أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} قَالَ: يَعْنِي مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ}... إِلَى قَوْلِهِ: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} فِي مُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ}... إِلَى قَوْلِهِ: (الْجَاهِلِينَ) قَالَ: هُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّ يَحْيَى بْنَ جَعْدَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَفَاعَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَشَرَةُ رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْهُمْ أَبُو رَفَاعَةَ، يَعْنِي أَبَاهُ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنُوا، فَأُوذُوا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} قَبْلَ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، يَأْخُذُونَ بِهَا، وَيَنْتَهُونَ إِلَيْهَا، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنُوا بِهِ، وَصَدَّقُوا بِهِ، فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ أَجَرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، بِصَبْرِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَاتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ سَلْمَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}... إِلَى قَوْلِهِ: (مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنُوا بِهِ. فَآتَاهُمُ اللَّهُ أَجَرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا: بِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ بُعِثَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَاإِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَإِذَا يُتْلَى) هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِ نَزُولِ هَذَا الْقُرْآنِ (قَالُوا آمَنَّا بِهِ) يَقُولُ: يَقُولُونَ: صَدَّقْتَا بِهِ {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} يَعْنِي مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا نَزَلَ، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ نُزُولِ هَذَا الْقُرْآنِ (مُسْلِمِينَ)، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مَجِيءِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، وَفِي كُتُبِهِمْ صِفَةُ مُحَمَّدٍ وَنَعْتُهُ، فَكَانُوا بِهِ وَبِمَبْعَثِهِ وَبِكِتَابِهِ مُصَدِّقِينَ قَبِلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواوَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ (يُؤْتَوْنَ) ثَوَابَ عَمَلِهِمْ {مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الصَّبْرِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ مَا وَعَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَعَدَهُمْ مَا وَعَدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَاتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ وَعَدَهُمْ بِصَبْرِهِمْ بِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ بُعِثَ، وَذَلِكَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا قَبْلُ، وَمِمَّنْ وَافَقَ قَتَادَةَ عَلَى قَوْلِهِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} عَلَى دِينِ عِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمُوا، فَكَانَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَدَخَلُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: إِنْ قَوَّمَا كَانُوا مُشْرِكِينَ أَسْلَمُوا، فَكَانَ قَوْمُهُمْ يُؤْذُونَهُمْ، فَنَزَلَتْ: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) وَقَوْلُهُ: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} يَقُولُ: وَيَدْفَعُونَ بِحَسَنَاتِ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا سَيِّئَاتَهُمْ (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) مِنَ الْأَمْوَالِ (يُنْفِقُونَ) فِي طَاعَةِ اللَّهِ، إِمَّا فِي جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِمَّا فِي صَدَقَةٍ عَلَى مُحْتَاجٍ، أَوْ فِي صِلَةِ رَحِمٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} قَالَ اللَّهُ {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} وَأَحْسَنَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الثَّنَاءَ كَمَا تَسْمَعُونَ، فَقَالَ: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُوَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا سَمِعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ اللَّغْوَ، وَهُوَ الْبَاطِلُ مِنَ الْقَوْلِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لَا يُجَارُونَ أَهْلَ الْجَهْلِ وَالْبَاطِلِ فِي بَاطِلِهِمْ، أَتَاهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا وَقَذَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِاللَّغْوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلْحَقُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِمَّا لَيْسَ هُوَ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا}... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَذِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ الَّذِي كَتَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذَا سَمِعَهُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، وَمَرُّوا بِهِ يَتْلُونَهُ، أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى دِينِ عِيسَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَأَسْلَمُوا، فَكَانَ قَوْمُهُمْ يُؤْذُونَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَسْلَمُوا، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَهُمْ، فَكَانُوا يَصْفَحُونَ عَنْهُمْ، يَقُولُونَ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}. وَقَوْلُهُ: (أَعْرَضُوا عَنْهُ) يَقُولُ: لَمْ يُصْغُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَمِعُوهُ {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِنَّمَا هُوَ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، مِنْ أَنَّهُ سَمَاعُ الْقَوْمِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ بِالْقَوْلِ مَا يَكْرَهُونَ مِنْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَجَابُوهُمْ بِالْجَمِيلِ مِنَ الْقَوْلِ (لَنَا أَعْمَالُنَا) قَدْ رَضِينَا بِهَا لِأَنْفُسِنَا، (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) قَدْ رَضِيتُمْ بِهَا لِأَنْفُسِكُمْ. وَقَوْلُهُ: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) يَقُولُ: أَمَنَةٌ لَكُمْ مِنَّا أَنْ نُسَابَّكُمْ، أَوْ تَسْمَعُوا مِنَّا مَا لَا تُحِبُّونَ {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} يَقُولُ: لَا نُرِيدُ مُحَاوَرَةَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَمُسَابَّتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُوَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكَ) يَا مُحَمَّدُ {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هِدَايَتَهُ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أَنْ يَهْدِيَهُ مِنْ خَلْقِهِ، بِتَوْفِيقِهِ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ. وَلَوْ قِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، كَانَ مَذْهَبًا {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَهْتَدِي لِلرَّشَادِ، ذَلِكَ الَّذِي يَهْدِيهِ اللَّهُ فَيُسَدِّدَهُ وَيُوَفِّقَهُ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ امْتِنَاعِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّهِ مِنْ إِجَابَتِهِ، إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، قَالَا ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: “ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ “ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ لَأَقْرَرْتُ عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}»... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: ثَنِي أَبُو حَازِمٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ: “ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “» ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ الْأَشْجَعِيَّ، يَذْكُرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ، أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “ يَا عَمَّاهُ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “» فَذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ «قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْت». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ الصُّدَائِيِّ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي يُونُسُ، عَنِ الزَّهْرِيِّ قَالَ: ثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ يَا عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ “ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّهَ: يَا أَبَا طَالِبٍ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ أَمَا وَاللَّهِ لِأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ “، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي}... الْآيَةَ.» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، بِنَحْوِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قَالَ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَبِي طَالِبٍ: «“ قُلْ: كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ أُجَادِلُ عَنْكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَة» “ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ: قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةُ الْأَشْيَاخِ، أَوْ سُنَّةُ الْأَشْيَاخِ. وَقَالَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةُ الْأَشْيَاخِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي طَالِبٍ: “ اشْهَدْ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ أُجَادِلْ عَنْكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ “ قَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي مِلَّةُ الْأَشْيَاخِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي طَالِبٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، قَالَ الْأَصَمُّ عِنْدَ مَوْتِهِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِكَيْمَا تَحِلُّ لَهُ بِهَا الشَّفَاعَةُ، فَأَبَى عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَامِرٍ: «لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ يَا عَمَّاهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ “ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّهُ لَوْلَا أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ عَارٌ لَمْ أُبَالِ أَنْ أَفْعَلَ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا. فَلَمَّا مَاتَ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: مَا تَنْفَعُ قَرَابَةُ أَبِي طَالِبٍ مِنْكَ، فَقَالَ: “ بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ السَّاعَةَ لَفِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ عَلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ تَغْلِي مِنْهُمَا أُمُّ رَأْسِهِ، وَمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ إِنْسَانٍ هُوَ أَهْوَنُ عَذَابًا مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} “.» وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} يَقُولُ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ قَضَى لَهُ الْهُدَى. كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قَالَ بِمَنْ قَدَّرَ لَهُ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَاأَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنْ نَتَّبِعِ الْحَقَّ الَّذِي جِئْتِنَا بِهِ مَعَكَ، وَنَتَبَرَّأُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، يَتَخَطَّفُنَا النَّاسُ مِنْ أَرْضِنَا بِإِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى خِلَافِنَا وَحَرْبِنَا، يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: فَقُلْ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا} يَقُولُ: أَوَلَمْ نُوَطِّئْ لَهُمْ بَلَدًا حَرَّمْنَا عَلَى النَّاسِ سَفْكَ الدِّمَاءِ فِيهِ، وَمَنَعْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يَتَنَاوَلُوا سُكَّانَهُ فِيهِ بِسُوءٍ، وَأَمَّنَّا عَلَى أَهْلِهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِهَا غَارَةٌ، أَوْ قَتْلٌ، أَوْ سِبَاءٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَلِيكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ نَوْفَلٍ، الَّذِي قَالَ: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَكِنَّا نَخَافُ أَنْ نُتَخَطَّفَ مِنْ أَرْضِنَا، {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قَالَ: هُمْ أُنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ: إِنْ نَتَّبِعْكَ يَتَخَطَّفْنَا النَّاسُ، فَقَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}: قَالَ: كَانَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} يَقُولُ: أَوَلَمْ يَكُونُوا آمِنِينَ فِي حَرَمِهِمْ لَا يُغْزَوْنَ فِيهِ وَلَا يَخَافُونَ، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ ثَنْي أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْحَرَمِ آمِنِينَ يَذْهَبُونَ حَيْثُ شَاءُوا، إِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ فَقَالَ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ إِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ قُتِلَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} قَالَ: آمَنَّاكُمْ بِهِ، قَالَ هِيَ مَكَّةُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ. وَقَوْلُهُ: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} يَقُولُ يُجْمَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ: إِذَا جَمَعْتَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ بِذَلِكَ: يُحْمَلُ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ بَلَدٍ. كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} قَالَ: ثَمَرَاتُ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} يَقُولُ: وَرِزْقًا رَزَقْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا، يَعْنِي: مِنْ عِنْدِنَا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْقَائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} لَا يَعْلَمُونَ أَنَّا نَحْنُ الَّذِينَ مَكَّنَّا لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا، وَرَزَقْنَاهُمْ فِيهِ، وَجَعَلْنَا الثَّمَرَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ تُجْبَى إِلَيْهِمْ، فَهُمْ بِجَهْلِهِمْ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ يَكْفُرُونَ، لَا يَشْكُرُونَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَافَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أَبْطَرَتْهَا {مَعِيشَتُهَا} فَبَطِرَتْ، وَأَشِرَتْ، وَطَغَتْ، فَكَفَرَتْ رَبَّهَا. وَقِيلَ: بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا، فَجَعَلَ الْفِعْلَ لِلْقَرْيَةِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلْمَعِيشَةِ، كَمَا يُقَالُ: أَسْفَهَكَ رَأْيُكَ فَسَفِهْتَهُ، وَأَبْطَرَكَ مَالُكَ فَبَطِرْتَهُ، وَالْمَعِيشَةُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} قَالَ: الْبَطَرُ: أَشَرُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَأَهْلُ الْبَاطِلِ وَالرُّكُوبُ لِمَعَاصِي اللَّهِ، وَقَالَ: ذَلِكَ الْبَطَرُ فِي النِّعْمَةِ {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} يَقُولُ: فَتِلْكَ دُورُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَمَنَازِلُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهُمْ إِلَّا قَلِيلًا يَقُولُ: خُرِّبَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَلَمْ يُعَمَّرْ مِنْهَا إِلَّا أَقَلُّهَا، وَأَكْثَرُهَا خَرَابٌ. وَلَفَظَ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَلَى أَنَّ مَسَاكِنَهُمْ قَدْ سُكِنَتْ قَلِيلًا فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تَسْكُنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: قَضَيْتُ حَقَّكَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} يَقُولُ: وَلَمْ يَكُنْ لِمَا خَرَّبْنَا مِنْ مَسَاكِنِهِمْ مِنْهُمْ وَارِثٌ، وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ سُكْنَاهُمْ فِيهَا، لَا مَالِكَ لَهَا إِلَّا اللَّهُ، الَّذِي لَهُ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًايَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ) يَا مُحَمَّدُ (مُهْلِكَ الْقُرَى) الَّتِي حَوَالَيْ مَكَّةَ فِي زَمَانِكَ وَعَصْرِكَ {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} يَقُولُ: حَتَّى يَبْعَثَ فِي مَكَّةَ رَسُولًا وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ كِتَابِنَا، وَالرَّسُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} وَأُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ، وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} يَقُولُ: وَلَمْ نَكُنْ لِنُهْلِكَ قَرْيَةً وَهِيَ بِاللَّهِ مُؤْمِنَةٌ إِنَّمَا نُهْلِكُهَا بِظُلْمِهَا أَنْفُسِهَا بِكُفْرِهَا بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا أَهْلَكْنَا أَهْلَ مَكَّةَ بِكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} قَالَ: اللَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً بِإِيمَانٍ، وَلَكِنَّهُ يُهْلِكُ الْقُرَى بِظُلْمٍ إِذَا ظَلَمَ أَهْلُهَا، وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَةً آمَنَتْ لَمْ يَهْلَكُوا مَعَ مَنْ هَلَكَ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَظَلَمُوا، فَبِذَلِكَ أُهْلِكُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَعْطَيْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعٌ تَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مِنْ زِينَتِهَا الَّتِي يَتَزَيَّنُ بِهِ فِيهَا، لَا يُغْنِي عَنْكُمْ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا يَنْفَعُكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ فِي مَعَادِكُمْ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ خَيْرٌ مِمَّا أُوتِيتُمُوهُ أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ مَتَاعِهَا وَزِينَتِهَا (وَأَبْقَى)، يَقُولُ: وَأَبْقَى لِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ لَا نَفَادَ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قَالَ: خَيْرٌ ثَوَابًا، وَأَبْقَى عِنْدَنَا. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أَفَلَا عُقُولَ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ تَتَدَبَّرُونَ بِهَا فَتَعْرِفُونَ بِهَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَتَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِكُمْ خَيْرَ الْمَنْزِلَتَيْنِ عَلَى شَرِّهِمَا، وَتُؤْثِرُونَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ، عَلَى الْفَانِي الَّذِي لَا بَقَاءَ لَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِكَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ مِنْ خَلْقِنَا عَلَى طَاعَتِهِ إِيَّانَا الْجَنَّةَ، فَآمَنَ بِمَا وَعَدْنَاهُ وَصَدَّقَ وَأَطَاعَنَا، فَاسْتَحَقَّ بِطَاعَتِهِ إِيَّانَا أَنْ نُنْجِزَ لَهُ مَا وَعَدْنَاهُ، فَهُوَ لَاقٍ مَا وُعِدَ وَصَائِرٌ إِلَيْهِ؛ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا مَتَاعهَا، فَتَمَتَّعَ بِهِ، وَنَسِيَ الْعَمَلَ بِمَا وَعَدْنَا أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَتَرَكَ طَلَبَهُ، وَآثَرَ لَذَّةً عَاجِلَةً عَلَى آجِلَةٍ، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا وَرَدَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، يَعْنِي مِنَ الْمُشْهَدِينَ عَذَابَ اللَّهِ، وَأَلِيمَ عِقَابِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ} قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ سَمِعَ كِتَابِ اللَّهِ فَصَدَّقَ بِهِ وَآمَنَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ فِيهِ {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هُوَ هَذَا الْكَافِرُ لَيْسَ وَاللَّهِ كَالْمُؤْمِنِ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}: أَيْ فِي عَذَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ ابْنُ عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ: قَوْلُهُ: {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ: أُحْضِرُوهَا. وَقَالَ الْحَارِثُ فِي حَدِيثِهِ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أَهْلُ النَّارِ، أُحْضِرُوهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ: أَهْلُ النَّارِ، أُحْضِرُوهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ} قَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ التَّغْلِبِيُّ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي جَهْلٍ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ يُنَادِي رَبُّ الْعِزَّةِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ لَهُمْ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أَنَّهُمْ لِي فِي الدُّنْيَا شُرَكَاءُ {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يَقُولُ: قَالَ الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ وَلَعْنَتُهُ، وَهُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُغْوُونَ بَنِي آدَمَ: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} قَالَ: هُمُ الشَّيَاطِينُ. وَقَوْلُهُ: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} يَقُولُ: تَبَرَّأْنَا مِنْ وِلَايَتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ إِلَيْكَ {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} يَقُولُ: لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ ادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْوَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ فِي الدُّنْيَا: (ادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ) الَّذِينَ كُنْتُمْ تَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} يَقُولُ: فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) يَقُولُ: وَعَايَنُوا الْعَذَابَ {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} يَقُولُ: فَوَدُّوا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُهْتَدِينَ لِلْحَقِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ يُنَادِي اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَقُولُ لَهُمْ: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} فِيمَا أَرْسَلْنَاهُمْ بِهِ إِلَيْكُمْ، مِنْ دُعَائِكُمْ إِلَى تَوْحِيدِنَا، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} يَقُولُ: فَخَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَخْبَارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ عَمِيَ عَنِّي خَبَرُ الْقَوْمِ: إِذَا خَفِيَ. وَإِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ عَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا يَحْتَجُّونَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَبْلَغَ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعْذِرَةِ، وَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَلَا خَبَرٌ يُخْبِرُونَ بِهِ، مِمَّا تَكُونُ لَهُمْ بِهِ نَجَاةٌ وَمُخْلِصٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} قَالَ: الْحُجَجُ، يَعْنِي الْحُجَّةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} قَالَ: الْحُجَجُ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} قَالَ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، التَّوْحِيدُ. وَقَوْلُهُ: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} بِالْأَنْسَابِ وَالْقَرَابَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} قَالَ: لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ، وَلَا يَتَمَاتُّونَ بِالْقَرَابَاتِ، إِنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا إِذَا أَلْتَقَوْا تَسَاءَلُوا وَتَمَاتُّوا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} قَالَ: بِالْأَنْسَابِ. وَقِيلَ مَعْنَى ذَلِكَ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ يَوْمَئِذٍ، فَسَكَتُوا، فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ فِي حَالِ سُكُوتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ) مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنَابَ وَرَاجَعَ الْحَقَّ، وَأَخْلَصَ لِلَّهِ الْأُلُوهَةِ، وَأَفْرَدَ لَهُ الْعِبَادَةَ، فَلَمْ يُشْرِكْ فِي عِبَادَتِهِ شَيْئًا (وَآمَنَ) يَقُولُ: وَصَدَّقَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَعَمِلَ صَالِحًا) يَقُولُ: وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِعَمَلِهِ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} يَقُولُ: فَهُوَ مِنَ الْمُنْجَحِينَ الْمُدْرِكِينَ طِلْبَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، الْخَالِدِينَ فِي جِنَانِهِ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُمَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَرَبُّكَ) يَا مُحَمَّدُ (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أَنْ يَخْلُقَهُ (وَيَخْتَارُ) لِوِلَايَتِهِ الْخِيَرَةَ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ السَّعَادَةُ. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وَالْمَعْنَى: مَا وَصَفْتُ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ يَخْتَارُونَ أَمْوَالَهُمْ، فَيَجْعَلُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَيَخْتَارُ لِلْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ، مَا هُوَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِيَرَتُهُمْ، نَظِيرَ مَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ، فَكَذَلِكَ اخْتِيَارِي لِنَفْسِي. وَاجْتِبَائِي لِوِلَايَتِي، وَاصْطِفَائِي لِخِدْمَتِي وَطَاعَتِي خِيَارَ مَمْلَكَتِي وَخَلْقِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ خَيْرَ أَمْوَالِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ “ مَا “ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، بِوُقُوعِ يُخْتَارُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْتَ، مِنْ أَنَّ “ مَا “ اسْمٌ مَنْصُوبٌ بِوُقُوعِ قَوْلِهِ: (يَخْتَارُ) عَلَيْهَا، فَأَيْنَ خَبَرُ كَانَ؟ فَقَدْ عَلِمْتُ ذَلِكَ كَانَ كَمَا قُلْتَ، أَنَّ فِي كَانَ ذِكْرًا مِنْ مَا، وَلَا بُدَّ لِكَانَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ مِنْ تَمَامٍ، وَأَيْنَ التَّمَامُ؟ قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ لِحُرُوفِ الصِّفَاتِ إِذَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بَعْدَهَا، أَحْيَانًا، أَخْبَارًا، كَفِعْلِهَا بِالْأَسْمَاءِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَهَا أَخْبَارُهَا، ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مَعْنٍ أَنْشَدَهُ قَوْلَ عَنْتَرَةَ: أَمِـنْ سُـمَيَّةَ دَمْـعُ العَيْـنِ تَـذْرِيفُ *** لَـوْ كَـانَ ذَا مِنْـكَ قَبْلَ الْيَوْمِ مَعْرُوفُ فَرَفَعَ مَعْرُوفًا بِحَرْفِ الصِّفَةِ، وَهُوَ لَا شَكَّ خَبَرٌ لِذَا، وَذُكِرَ أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَنْشَدَهُ ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ ذَا مِنْكَ قَبْلَ الْيَوْمِ مَعْرُوفُ وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: قُلْـتُ أَجِـيبِي عَاشِـقًا *** بِحُـبِّكُمْ مُكَـلَّفُ فيهَـا ثَـلَاثٌ كَـالدُّمَى *** وَكَـاعِبٌ وَمُسْـلِفُ فَمُكَلَّفٌ مِنْ نَعْتِ عَاشِقٍ، وَقَدْ رَفَعَهُ بِحَرْفِ الصِّفَةِ، وَهُوَ الْبَاءُ، فِي أَشْبَاهٍ لِمَا ذَكَرْنَا بِكَثِيرٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} رُفِعَتِ الْخِيَرَةُ بِالصِّفَةِ، وَهِيَ لَهُمْ، إِنْ كَانَتْ خَبَرًا لِمَا، لَمَا جَاءَتْ بَعْدَ الصِّفَةِ، وَوَقَعَتِ الصِّفَةُ مَوْقِعَ الْخَبَرِ، فَصَارَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: كَانَ عُمَرُ وَأَبُوهُ قَائِمٌ، لَا شَكَّ أَنَّ قَائِمًا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ، وَكَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ بَعْدَهُ، كَانَ مَنْصُوبًا، فَكَذَلِكَ وَجْهُ رَفْعِ الْخِيَرَةِ، وَهُوَ خَبَرٌ لِمَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ “ مَا “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَحْدًا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَيَخْتَارَ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْتَارَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (وَيَخْتَارُ) نِهَايَةَ الْخَبَرِ عَنِ الْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، ثُمَّ يَكُونُ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً، بِمَعْنَى: لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الْخِيَرَةُ: أَيْ لَمْ يَكُنْ لِلْخَلْقِ الْخِيَرَةُ، وَإِنَّمَا الْخِيَرَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ؟ قِيلَ: هَذَا قَوْلٌ لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى ذِي حِجًا مِنْ وُجُوهٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ قَوْلٌ، فَكَيْفَ وَالتَّأْوِيلُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا بِخِلَافِهِ؛ فَأَمَّا أَحَدُ وُجُوهِ فَسَادِهِ، فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} لَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ ظَنَّهُ، مِنْ أَنَّ “ مَا “ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، عَلَى نَحْوِ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُ، كَانَ إِنَّمَا جَحَدَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِيمَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَمَّا فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ فَلَهُمُ الْخِيَرَةُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: مَا كَانَ لَكَ هَذَا، لَا شَكَّ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ يَحُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ لَا شَكَّ خُلْفٌ. لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْخَلْقِ مِنْ ذَلِكَ قَدِيمًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ أَبَدًا. وَبَعْدُ، لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، لَكَانَ الْكَلَامُ: فَلَيْسَ. وَقِيلَ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، لَيْسَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، لِيَكُونَ نَفْيًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فِيمَا قَبْلُ وَفِيمَا بَعْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّكِتَابَ اللَّهِ أَبَيْنَ الْبَيَانَ، وَأَوْضَحَ الْكَلَامَ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ ابْتِدَاءً: مَا كَانَ لِفُلَانٍ الْخِيَرَةُ، وَلِمَا يَتَقَدَّمُ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وَلَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَبَرٌ عَنْ أَحَدٍ، أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ الْخِيَرَةُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كَانَ لَكَ الْخِيَرَةُ، وَإِنَّمَا جَرَى قَبْلَهُ الْخَبَرُ عَمَّا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ أَمْرُ مَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ، وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَبَرَ عَنْ سَبَبِ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا مِنْهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِاخْتِيَارِهِ إِيَّاهُ لِلْإِيمَانِ، وَلِلسَّابِقِ مِنْ عِلْمِهِ فِيهِ اهْتَدَى. وَيَزِيدُ مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ إِبَانَةً قَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ عِبَادِهِ السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ، وَيَصْطَفِي لِنَفْسِهِ وَيُخْتَارُ لِطَاعَتِهِ مَنْ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ السَّرِيرَةَ الصَّالِحَةَ، وَالْعَلَانِيَةَ الرَّضِيَّةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّمَعْنَى الْخِيَرَةِفِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِنَّمَا هُوَ الْخِيَرَةُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُخْتَارُ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْأَنْعَامِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ: أُعْطِيَ الْخِيَرَةَ وَالْخَيْرَةَ، مِثْلَ الطِّيَرَةِ وَالطَّيْرَةِ، وَلَيْسَ بِالِاخْتِيَارِ، وَإِذَا كَانَتِ الْخِيَرَةُ مَا وَصَفْنَا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ أَجْوَدِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَيَخْتَارُ مَا يَشَاءُ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ خِيَرُ بَهِيمَةٍ أَوْ خِيَرُ طَعَامٍ، أَوْ خِيَرُ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ. فَإِنْ قَالَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ؟ قِيلَ: لَا وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَصْدَرًا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ كَوْنَ الْخِيرَةِ لَهُمْ. إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، وَجَبَ أَلَّا تَكُونَ الشَّرَارُ لَهُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْأَنْعَامِ؛ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شِرَارُ ذَلِكَ وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهَا مَالِكٌ، وَذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى خَطَؤُهُ، لِأَنَّ لِخِيَارِهَا وَلِشِرَارِهَا أَرْبَابًا يَمْلِكُونَهَا بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَسَادُ تَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ. وَقَوْلُهُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ وَتَبْرِئَةً لَهُ، وَعُلُوًّا عَمَّا أَضَافَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا تَخَرَّصُوهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَيْهِ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ شِرْكِهِمْ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُهُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: وَتَعَالَى عَنِ الَّذِي يُشْرِكُونَ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي صُدُورُ خَلْقِهِ؛ وَهُوَ مِنْ: أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ فِي صَدْرِي: إِذَا أَضْمَرْتُهُ فِيهِ، وَكَنَنْتُ الشَّيْءَ: إِذَا صُنْتُهُ، (وَمَا يُعْلِنُونَ): يَقُولُ: وَمَا يُبْدُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اخْتِيَارَ مَنْ يُخْتَارُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِسَرَائِرِ أُمُورِهِمْ وَبَوَادِيهَا، وَأَنَّهُ يَخْتَارُ لِلْخَيْرِ أَهْلَهُ، فَيُوَفِّقُهُمْ لَهُ، وَيُوَلِّي الشَّرَّ أَهْلَهُ، وَيُخَلِّيهِمْ وَإِيَّاهُ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ، الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَلَا مَعْبُودَ تَجُوزُ عِبَادَتُهُ غَيْرُهُ {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا {وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ} يَقُولُ: وَلَهُ الْقَضَاءُ بَيْنَ خَلْقِهِ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يَقُولُ: وَإِلَيْهِ تُرَدُّونَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ، فَيَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْحَقِّ.
|